تونس … من جنة خضراء الى ارض جرداء: الحرائق تقضي على الغابات!
لطالما لقبت ب "بتونس الخضراء" وكانت ومصدر الهام للشعراء حيث تغنى بها نزار قباني قائلا” يا تونس الخضراء جئتك عاشقا… وعلى جبيني وردة وكتاب". ولعل مرد هذا الاقتران بين "تونس" و "الخضرة" راجع أساسا الى الثراء الطبيعي الذي تكتنزه ربوعها لاسيما الغطاء الغابي الذي يمتد على الاف الكيلومترات والذي يتميز بالتنوع حسب الخصائص البيئية لكل منطقة (معدل نزول الامطار ونوعية التربة ودرجات الحرارة) وتعتبر أشجار الفلين والزان والصنوبر البحري والصنوبر الحلبي والعرعار البري والسرول والسنط والكلاتوس والدردار والطلح اهم الأصناف الغابية في البلاد التونسية. وتقدر المساحة الجملية للغابات في تونس ب 4.6 مليون هكا أي ما يعادل 34 ٪ من مساحة التراب الوطني. وتتمركز أساسا في جهات الشمال الغربي والوسط الغربي كما يسكنها حوالي 800 ألف ساكن وتقدر قيمتها الاقتصادية بحوالي 932 مليون دينار.
لكن رغم هذا الثراء والتنوع، تتعرض هذه المنظومة في السنوات الأخيرة الى عديد التهديدات التي تدق ناقوس الخطر وباتت تهدد وجودها مثلما حذر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مناسبات مختلفة ولعل من أبرز هذه التهديدات ظاهرتا القطع العشوائي والحرائق التي تلتهم في كل سنة الالاف من الهكتارات الغابية كما باتت تطرح عديد الأسئلة حول الأسباب الحقيقية التي تؤدي الى اندلاعها في كل مرة.
تاريخية حرائق الغابات في تونس
تتعرض الغابات في البلاد التونسية منذ نشأتها الى نشوب العديد من الحرائق ووفق أرقام سنة 2009 التي سجلها المعهد الوطني للإحصاء بلغ عدد الحرائق المسجلة 134 حريقا اتى على مساحة قدرت ب 900هك. أما في سنة 2010 فقد سجلنا 227 حريقا تضرر منها ما يقارب 747 هكا من الغابات.
ويعتبر عام 2020 عام الحرائق بامتياز حيث تجاوز فيه معدل الحرائق عدد الحرائق التي نشبت على مدى تسع سنوات بين 2011 و2019 وفق المعطيات التي قدمتها الإدارة العامة للغابات بوزارة الفلاحة والتي اكدت ان وتيرة هذه الحرائق تزايدت خلال الفترة الممتدة من 22 جويلية والأسبوع الأول من شهر اوت حيث تم تسجيل 55 حريقا تزامنت مع عطلة عيد الأضحى، سجل منها 18 حريقا بكل من باجة وجندوبة والكاف وسليانة وبنزرت ونابل.
وتواصل مسلسل الحرائق في سنة 2022 لنسجل 88 حريقا أتت على ما يقارب ال 3 الاف هكا في الفترة الممتدة من غرة جوان الى غاية 26 جويلية حسب ما صرح به الناطق الرسمي باسم الحماية المدنية السيد معز تريعة.
وفي ذات السياق قامت الإدارة العامة للغابات بإصدار بلاغ عن حصيلة هذه الكوارث الطبيعية حسب المناطق نستعرض مقتطفا منه في الجدول التالي:
الولاية | عدد الحرائق | المناطق المعنية |
جندوبة | 03 | دار فاطمة وببّوش وعين بومرشان من معتمدية عين دراهم |
بن عروس | 02 | السلسلة الجبليّة الممتدّة من جبل حمام الأنف إلى جبل برج السدريّة |
بنزرت | 02 | طمرة والرياح من معتمدية سجنان |
القيروان | 02 | جبل قيتون والعثامنية من معتمدية الوسلاتيّة |
زغوان | 01 | جبل منصور من معتمدية الفحص |
سليانة | 01 | جبل البياض من معتمدية برقو |
باجة | 01 | جبل خرقالية من معتمدية نفزة |
القصرين | 01 | غابة الفلاليق من معتمدية تالة |
الكاف | 01 | جبل ملالة من معتمدية الطويرف |
نابل | 01 | دار شعبان الفهري |
حرائق مفتعلة ام مجرد ظاهرة طبيعية؟
عديد الأسئلة باتت تطرح في الآونة الأخيرة خاصة بعد الحرائق الكبيرة التي ضربت جبل بوقرنين وجبل برقو أواخر شهر جويلية 2022. وحول أسبابها تبقى فرضية العمل الاجرامي قائمة وفق ما صرح به الناطق الرسمي للإدارة العامة للحماية المدنية الذي أكد ان الأبحاث هي الكفيلة وحدها بتثبيتها من عدمها، وذلك رغم ثبوت عدد من المؤشرات التي تؤكد ان هاته الحرائق مفتعلة وأن طابعها الاجرامي ليس مستبعدا.
وفي حوار اجريناه مع مسؤول عن إدارة الغايات بعين دراهم يوم 24 جوان 2022 في إطار التبادل الشبابي الذي نظمه قسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفي سؤاله عن الحرائق التي اندلعت بهذه المناطق سنة 2021 قال ” ان النيران اشتعلت في أماكن من الصعب الولوج لها بالشاحنات وان من قام بذلك اختار الأماكن بعناية وبدقة متناهيتين. بالنسبة الينا هي حرائق مدبرة وبفعل فاعل لان عملية اشعال النيران تمت بشكل مترابط وفي أماكن مختلفة بعيدة عن بعضها البعض بغية تشتيت جهود رجال الإطفاء وأعوان الغابات. اما بالنسبة للأسباب التي أدت الى اقتراف هذه الجرائم قال ان التحقيقات التي أجريت لم يفصح عن نتائجها الى حد اليوم وهي الوحيدة الكفيلة بإعطاء الأجوبة الشافية عن هاته الحوادث والأطراف التي تقف وراءها”.
الإطار التشريعي في علاقة بعقوبة اضرام النار بالغابات
بالرجوع الى مجلة الغابات في قسمها الرابع المتعلق بحماية الغابات من الحرائق نلاحظ ان المشرع و من منطلق الحفاظ على هذه الثروة تدرج في سلم العقوبات ابتداء بمجرد الخطية وصولا الى عقوبة الإعدام حيث “يعاقب كلّ من جلب أو أوقد النار خارج المساكن وبناءات الاستغلال بداخل الغابات أو بالأراضي المغطاة بالنباتات الغابية وعلى بعد 200 متر منها وكل من أضرم النار وحرق الهشيم والنباتات الغابية الشعراء والنباتات الأخرى مهما كان نوعها من أول ماي إلى 31 أكتوبر وذلك على مسافة 500 متر من جميع الغابات أو الأراضي المكسوّة بالنباتات الغابية الشعراء بخطيّة يتراوح مقدارها بين 50 إلى 150 دينارًا وبالسجن من 16 يومًا إلى 3 أشهر أو بإحدى العقوبتين فقط وعند العود يتحتم الحكم بالسّجن.وإذا تسرّب الحريق للغابات من جرّاء المخالفة يُعاقب الفاعل بالسّجن لمدّة تتراوح بين 3 أشهر إلى عامين بقطع النظر عن الغرامات. كما تُسلّط على كلّ من تعمّد أو حاول مباشرة أو بطريق التسرّب إيقاد النار بالغابات أو المراعي الخاضعة للغابات العقوبات المُقرّرة بالفصل 307 من المجلة الجزائية.
أما بخصوص حرائق المزارع والضيعات الفلاحية وطبقًا لمقتضيات الفصلين 307 و308 من المجلة الجزائية يُعاقب بالسجن مدة 12 عامًا من أوقد النار مباشرة أو تعريضًا إما بزرع أو غراسات أو بتبن أو مُتحصّل صابة مُعرّم أو مُكوّم وإمّا بحطب مُعرّم أو مُرتّب أمتارًا مكعبة ويكون العقاب بالإعدام إذا نتج عن الحريق موت. ويعاقب المعتدي بالسجن مدة 20 عامًا إذا كانت الأماكن التي أُحرقت غير مسكونة أو غير مُعدّة للسّكن”. كما تعرض قانون الإرهاب وغسيل الأموال المؤرخ في 7 اوت 2015 الى مسالة احراق الغابات في الفقرة 15 من الفصل 14 “تصنف جريمة إرهابية الإضرار بالأمن الغذائي والبيئة بما يخلّ بتوازن المنظومات الغذائية والبيئية أو الموارد الطبيعية أو يعرض حياة المتساكنين أو صحتهم للخطر. ويعاقب بالسجن من عشرة أعوام إلى عشرين عامًا وبخطية من خمسين ألف دينار إلى مائة ألف دينار كل من يقترف فعلاً من الأفعال المشار إليها”.
التغيرات المناخية عامل مهم في اندلاع الحرائق
من المعروف ان التغيرات المناخية تساهم في ارتفاع درجة حرارة الأرض بمعدلات متفاوتة من منطقة الى أخرى. ولئن كانت المناطق الغابية تتميز بالبرودة الناجمة عن كثافة الغطاء النباتي والرطوبة، فإنها ليست بمنأى عن ارتفاع درجات الحرارة. وفي مناطق الشمال الغربي على سبيل المثال تصل كميات الامطار الى 1500 مم في السنوات الممطرة، الا أنه وبفعل التغيرات المناخية تراجعت هذه المعدلات وأصبح موسم الصيف يمتد من بداية شهر ماي الى شهر أكتوبر أي على امتداد نصف السنة، وهو ما يتسبب في جفاف لحاء الأشجار والنباتات العشبية التي تصبح مقاومتها للحرائق ضعيفة، كما يفاقم هبوب الرياح الجافة والساخنة sirocco من سرعة انتشار النيران وارتفاع السنة اللهب.
وبالرجوع الى حريق صائفة 2021 بمنطقة عين دراهم٬ أكد لنا بعض شهود العيان ان درجات الحرارة وقتها بلغت 51 درجة مائوية في سابقة لم تسجلها المنطقة من قبل بما يعني ان ظاهرة التغيرات المناخية أصبحت واقعا ملموسا يلقي بظلاله على ديمومة المنظومة الغابية.
غياب استراتيجية واضحة لمجابهة مشكل الحرائق
ككل بلدان العالم تشهد البلاد التونسية سنويا مئات الحرائق التي تأتي على مساحات شاسعة من النسيج الغابي والرعوي لكن الأكيد ان التعاطي مع هذه الجوائح الطبيعية يختلف من دولة لأخرى. ففي قراءة لمسالة الحرائق في تونس يتأكد لنا بما لا يدع للشك ان هناك إشكالات هيكلية تزيد الوضع تعقيدا حيث يبلغ العدد الجملي لحراس الغابات والسباسب وغيرها من المنظومات الطبيعية 7455 عونا فقط من بينهم 5150 حارس غابات و123 حارسا لسباسب الحلفاء و2123 حارس صيد و256 حارس برج مراقبة أي بمعدل عون حراسة لكل 500 هكا (المعدل العادي عون لكل 200 هكا). ويعتبر هذا العدد ضعيفا جدا إذا قارناه بالمساحة الجملية للغابات ولذلك وجب تدعيم هذا القطاع بالعدد الكافي من الاعوان واعتبار المحافظة على الثروة الغابية مسالة امن قومي. أضف الى ذلك ضعف الإمكانيات اللوجيستية والتي تحول دون السيطرة على الحرائق في الوقت المناسب وهو ما أكده لنا المسؤول عن إدارة الغابات بعين دراهم الذي تحدث عن ضعف فادح في المعدات وعن البيروقراطية ومركزية القرار التي لا تتيح للمسؤولين في الجهات حرية التصرف في الوقت الذي يجب تدعيم هاته المناطق بالإمكانات اللازمة.
كما تؤثر محدودية الموارد البشرية واللوجستية على القيام بتهيئة الغابات التي تبقى مسالة ضرورية خاصة فيما يتعلق بفتح المسالك وتهيئتها نظرا للدور المركزي الذي تلعبه في القضاء على جيوب النار ووقف تقدمها بالإضافة الى أنه من أهم التحديات بالنسبة لرجال الإطفاء وأعوان الغابات والجيش الوطني هو كيفية الوصول الى المناطق الوعرة في أسرع وقت ممكن وبأكثر عدد ممكن من المعدات. والى حد الان٬ لازالت إدارة الغابات في عديد المناطق ان لم نقل جلها تعتمد على الإنذار بواسطة الحراس نظرا للافتقاد الى تجهيزات الإنذار المبكر هذا إضافة الى انعدام التكوين لدى الغالبية منهم في مجال كيفية إطفاء الحرائق والتعامل معها.
ومن خلال متابعتنا لسلسلة الحرائق التي اندلعت في السنوات الأخيرة٬ لاحظنا ان التعاطي معها لم يكن بنفس الطريقة ونقصد بذلك سرعة التحرك وعدد الاليات التي تم تسخيرها وحتى التغطية الاعلامية فمثلا بالنسبة للحريق الذي نشب في جبل بوقرنين كان التجند واضحا والتعبئة غير مسبوقة حيث وصلت الى حد الاستعانة بالمساعدة الخارجية بينما لم يقع التعاطي مع الحرائق التي أتت على مساحات شاسعة من جبل برقو بسليانة بنفس الكيفية رغم انها مثلت تهديدا حقيقيا لسكان المنطقة كما سجلت خسائر فادحة. وتواصل حريق جبل برقو لاربعة أيام دون ان يسجل أي تدخل حازم من طرف فرق الإطفاء، وذلك وفقد شهادة المتساكنين الذين نفذوا يوم 24 جويلية وقفة إحتجاجية أمام مقر الولاية، للتنديد بما أسموه “تجاهل السلط المركزية لحريق جبل برقو، والتباطؤ في توفير المعدات اللازمة”.
وفي ختام هذا التقرير٬ يهمنا ان نؤكد كمنتدى ان جائحة الحرائق تبقى تهديدا حقيقيا للثروة الغابية التي يجب ان تحظى بالعناية اللازمة واعتبارها كما أسلفنا مسالة امن قومي ولعل من بين المقترحات التي نقدمها هي العمل على تدعيم الإطار التشريعي المنظم لهذا القطاع واصدار مجلة غابات جديدة تعكس هذا التوجه. كما لابد من تدعيم قطاع حراس الغابات بالعدد الكافي وبالتجهيزات الحديثة وتنظيم دورات تكوينية مع تربصات دورية في مجابهة الكوارث الغابية والاستفادة من التطور التكنولوجي الذي يمكن ان يساعد على استباق الحرائق وضمان تدخل ناجع. إضافة الى ذلك٬ يجب على الدولة ان تنفتح على سكان المناطق الريفية وان تشركهم في كل البرامج التحسيسية المتعلقة بالحفاظ على الثروة الغابية باعتبارهم خط الدفاع الأول عنها وأول المستفيدين من ثرواتها.
تعليق جديد